يضيف الرئيس الأميركي دونالد ترامب غزة إلى قائمة المناطق التي بات يريد “الاستيلاء عليها” مؤخرا، في سابقة وصفها البعض بكونها “إفلاسا أخلاقيا”، ووصمها آخرون بأنها “محض جنون”، لكنها تنطلق من نسق فكري يجسد به ترامب انحيازه الكامل لإسرائيل.
في لقائه معه بواشنطن، أخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكثر مما توقعه عندما تحدث الرئيس ترامب أمامه عن “إخلاء غزة بشكل دائم من جميع الفلسطينيين”، وذلك ما فشل هو في القيام به بقوة النار والمجازر.
قدم ترامب هذا الطرح “الفانتازي” أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي الصادرة بحقه مذكرة اعتقال من الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب محتملة في غزة، ولإسرائيل التي تحاكم أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
عاد نتنياهو منتشيا من رحلة واشنطن التي كان يفترض أن يخضع فيها لضغوط من الرئيس الأميركي، بهدية أخرى بعد أن فرض مُضيفه عقوبات على الجنائية الدولية نفسها، معلنا “حالة الطوارئ الوطنية للتعامل مع التهديد الذي تمثله”.
بالنظر إلى تصريحاته التي بدأها قبل وصوله إلى البيت الأبيض وبعده، لم يكن مقترح الرئيس ترامب لـ”تطهير غزة” من الفلسطينيين خارجا عن العواصف التي أثارها بالحديث عن شراء غرينلاند أو الاستيلاء عليها، وضم كندا، واستعادة قناة بنما -بالقوة إن لزم الأمر- وإعادة تسمية خليج المكسيك بخليج أميركا، وفرض الرسوم والتعريفات الجمركية والعقوبات في كل الاتجاهات.
الرئيس ترامب يمضي مراسيم تنفيذية تقضي بخروج بلاده من منظمات أممية (الفرنسية)
الأرض.. مجرد استثمار آخر
بحقائق التاريخ والجغرافيا وطبيعة الصراع الممتد، ليست غزة غرينلاند أو بنما، ويشير الكاتب بيتر بيكر في صحيفة نيويورك تايمز (5 يناير/كانون الثاني) في تعليقه على قرار ترامب حول غزة إلى أن الرئيس الأميركي “في ولايته الثانية في البيت الأبيض يطرح أفكارا أكثر وقاحة حول إعادة رسم خريطة العالم على غرار الإمبريالية في القرن التاسع عشر”.
يستحضر الرئيس الأميركي في مقاربته إرثا أميركيا خالصا عندما يتحدث عن تهجير سكان غزة وإقامة “ريفيرا الشرق الأوسط”، إذ إن فكرة إزالة شعب والاستيلاء على أراضيه التاريخية تتعلق بصفقات عقارية من النوع الذي يستهويه كمطور عقاري، وهي الفكرة التي لازمت القادمين إلى العالم الجديد بعد كريستوفر كولومبوس، ولازمت أيضا الحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني في فلسطين.
لم تنشأ الولايات المتحدة كوطن وإنما نشأت كموطن أو “فرن صهر” -كما إسرائيل- وقامت في الأصل على نظرية المنفعة أو المصلحة التي لا تستند إلى قواعد أخلاقية أو تاريخ أو احترام حق الشعب أو جذوره، فقد كانت الشركات المساهمة المحدودة المسؤولية -وهي اختراع أميركي- هي أساس الدولة التي نشأت لاحقا.
كانت فرجينيا على الساحل الشرقي هي أول مواطن الهجرة إلى العالم الجديد. سميت المدينة لاحقا ثم الولاية بأكملها باسم الشركة التي أسسها مغامرون ووافدون وهاربون وحالمون أوروبيون، وشركاء لهم في العالم القديم، وتوسعت أعمالها بشكل هائل، على حساب السكان الأصليين. كانت الأرض مجرد مشروع استثماري وراء البحار.
بدا أصحاب الأرض -الهنود الحمر- عائقا أما تلك الشركات، فهم غير قابلين للتمدين أو خدمة هؤلاء الذين انقضوا عليهم من الشرق، ولا للانخراط في حمى العالم الجديد الذي قوض عالمهم القديم، فظهرت فكرة الإبادة والتهجير والاستيلاء على الأرض بالتوسع بقدر ما تصل جياد هؤلاء القادمين من الشرق وقوة سلاحهم ووفرة طلقات رصاصهم، وهو ما فعلته أيضا الحركة الصهيونية برعاية غربية في فلسطين.
لاحقا نشأت الدولة الأميركية بقوة السلاح والتطهير العرقي ثم التوسع والشراء، ثم بقوة رأس مال جبارة صنعتها الموارد الهائلة، بفضل “البارونات اللصوص” كما يسميهم المؤرخ الإنجليزي الشهير بول جونسون في كتاب “العملاق” (Colossus) الصادر في نيويورك عام 2001، وهو يقصد كبار ملاك الشركات الذين سيطروا على القرار والدولة.
باتت الولايات المتحدة دولة “فائقة القوة” (hyperpower) ذات موارد غير محدودة، ورثت الإمبراطوريات القديمة، متحللة من التاريخ أو العواطف أو قوة الأواصر التي تربط الناس أو الأمة بوطن أو أرض، أو الهوية بمعناها التاريخي التراكمي.
لذلك لا يفهم ترامب أو غيره من الرؤساء الأميركيين بدرجات متفاوتة ذلك الارتباط الفلسطيني العاطفي بأرضه وتاريخه ومقدساته كما لم يفهموا تعلق الهنود الحمر بأرضهم، وهم لا يحبون الحديث عن الماضي سوى الأساطير الإسرائيلية المختلقة، بل يحبون الحديث عن المستقبل من وجهة نظرهم، ومنطق المنفعة والمصلحة كمحصلة تجربة الولايات المتحدة في نشوئها.
قصف إسرائيلي على جنين
مع وقف إطلاق النار في غزة كثفت إسرائيل من عمليات القصف في الضفة وعلى مخيم جنين (الجزيرة)
هدية لإسرائيل
يصف محللون ترامب بكونه أكثر “تطرفا” في معاداة الحق الفلسطيني من سلفه جو بايدن الذي اعتبر نفسه أنه “صهيوني”، بل إن إدارة ترامب -بحسبهم- تستهدف تغيير المشهد في المنطقة بشكل أكثر راديكالية، وتصفية القضية الفلسطينية.
دعمت إدارة بايدن إسرائيل في حربها الوحشية على غزة، بينما يستكمل ترامب المهمة “بفجاجة” الحديث عن “تطهير غزة” من سكانها الفلسطينيين ونقلهم إلى سيناء أو الأردن أو أي مكان آخر.
كانت تصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية -بشكل بدا مقبولا- عن إيقاف الحرب، أو ضغطه على نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار قبل تنصيبه، مجرد مناكفة لسلفه الديمقراطي الذي قدم لإسرائيل كل شيء، لكنه لم يجرؤ على تصور الطرح الذي قدمه ترامب.
في ولايته الأولى (2017-2021) أعطى ترامب لإسرائيل أكثر مما كانت تنتظر، حين اعترف بالقدس “عاصمة موحدة وأبدية للدولة العبرية”، واعترف بضمها غير القانوني للجولان السوري المحتل، وفي عهده بلغ التوسع الاستيطانى بالضفة الغربية أوجه، وفي عهده منحها “صفقة القرن” التي خرج من البيت الأبيض من دون أن يستكمل أركانها، كما تصورها.
ويعود ترامب في ولايته الثانية بمخطط “الاستيلاء” لتلك الصفقة التي لم تكتمل أركانها بشكل أكثر “توحشا”، وهو بذلك لا ينفي التاريخ فقط، أو ينتهك القانون الدولي أو ينسف “حل الدولتين”، بل هو يحاول -وفق المحللين- أن يعصف بالوجود الفلسطيني كله والقضية برمتها.
وفي هذا السياق، تقول هالي سويفر الرئيسة التنفيذية للمجلس الديمقراطي اليهودي في أميركا “إن فكرة أن الولايات المتحدة ستستولي على غزة ليست متطرفة فحسب، بل إنها منفصلة تماما عن الواقع. في أي عالم يحدث هذا؟”.
كان الرؤساء الأميركيون يساندون إسرائيل بشكل مطلق، لكن أحدا منهم لم يجرؤ على القول “إن مساحة إسرائيل تبدو صغيرة جدا على الخريطة، ولطالما فكرت كيف يمكن توسيعها”، أو يدعون إلى تهجير سكانها واحتلالها، وهي أفكار ترامب الخارجة عن الصندوق تماما.
ويقول بيتر بيكر المحلل السياسي في صحيفة نيويورك تايمز إن “الرئيس ترامب كان يستمتع بإشادة نتنياهو باستعداده للتفكير خارج الصندوق، ولكن عندما يتعلق الأمر بغزة كان تفكير السيد ترامب خارج الصندوق إلى الحد الذي لم يكن من الواضح معه أنه كان يعرف حتى أن هناك صندوقا”.
نتنياهو عاد منتشيا من رحلته إلى واشنطن بعد حديث ترامب عن تهجير أهلها (الأناضول)
“العبثية” والضغوط القصوى
بينما رحبت إسرائيل بإعلان ترامب، أثارت تصريحاته عاصفة دولية من الانتقادات والغضب، مشيرة في مجملها إلى أنه يتنكر من خلالها لمبدأ حل الدولتين، وإحلال السلام وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وينتهك القانون الدولي باعتبار ما يطرحه يعد خطة للتهجير القسري.
من جهتها، أكدت منظمة الأمم المتحدة أن “القانون الدولي يمنع أي إبعاد أو ترحيل قسري لسكان يعيشون على أرض محتلة”، في حين أكد الاتحاد الأوروبي أن “غزة جزء لا يتجزأ من الددولة الفلسطينية المستقبلية”.
وشن نواب من الحزب الديمقراطي الأميركي هجوما على الرئيس ترامب، إذ رأى النائب كريس ميرفي أن ترامب “فقد عقله تماما”، ووصف النائب جيك أوشينكوس من جهته إعلان ترمب بأنه “متهور وغير معقول”.
واعتبر محللون أن تصريحات ترامب “المفاجئة والمرتجلة” غير قابلة للتحقق، ولا تعدو أن تكون نوعا من سياسة “الضغوط القصوى” التي يمارسها في الأيام الأخيرة في كل الاتجاهات، وأن تصريحه الجمعة بكونه ليس في عجلة من أمره لتنفيذ خطة السيطرة على غزة يأتي في هذا الاتجاه.
قد يكون نتنياهو الرابح الأكبر من تصريحات ترامب مرحليا، إذ وفرت له سقف أمان في أزمته الداخلية، ومنحته هامشا للالتفاف على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وربما استئناف حربه على غزة، وأطلقت يده في الضفة الغربية، لكن الرفض الدولي الواسع لخطة ترامب يؤكد تزايد زخم القضية الفلسطينية ويثبت صمود أهل قطاع غزة التي يراها الرئيس ترامب مجرد “واجهة بحرية” قابلة للاستثمار ويراها شعبها التاريخ والهوية والوطن الذي لا بديل عنه.